سُرى علّوش
أين ذهب البحر؟ كيف اختفى بين أصابعك السمراء الطويلة ولم أعد أراه إلا حين أصافح كفك الممتلئ بالظلال: ظِلُّ رجل وحيد متعب, ظِلُّ امرأة كانت تستيقظ في صباحاتها بين يديك وتغسل وجهها بابتسامة بيضاء, ظِلُّ مدينة تسكنك ولا تسكنها, ظِلُّ حبك لي الذي لم أعتد خرافته حتى الآن, ظلال نساء رماديات تعرفهن ولا تفكر بهن, ظِلُّ حديقة تمتد من كرسيك وحتى شباك المنزل, ظلال الأشجار التي تسكن ذاكرتك, ظلال البيوت الحجرية في قريتك الصغيرة, ظل غيابك الذي يلوح لي من البعيد كالسلام كلما التقينا, ظلك الذي تفرده على كتفيّ كلما هاجمني البكاء؛ وحده ظلي لا أراه أبداً هناك؛ ربما لأنني لم أجتمع مرة مع الشمس في غرفتك, لطالما غادرتُ قبل مجيئها وعدتُ بعد أن نزعتَ عنها آخر أثوابها ووضعتَه خلسة في خزانتك الخشبية ثم تسللتَ من النافذة. ليكن! أنت في العتمة أشهى, وأنا في كل الأحوال لا أحب برودة الظلال ولا أريد أن أبدأ حرباً مع الضوء أخسر خلالها تعاطفه معي, فأنا أحتاجه حين تنام.
الوطن أبيض؛ قطعة قماش يضعوننا داخلها حين نخرج من أمهاتنا ونرتبط برائحتها طالما حيينا فيصبح كل شيء خاضعاً للمقارنة بها؛ السرير الأول, البيت الأول, الثياب التي علقت في ذاكرتنا من الطفولة, الوجوه التي نعرفها وتلك التي لا نعرفها, الغصة التي تأكلنا حين نغادر أول مرة, شعورنا بالذنب كلما عصينا الحياة العادية التي ألفناها, الأخطاء التي لا تشبهنا, الأغاني التي ننسى كلماتها ونتذكر موسيقاها فقط, ثوب الصلاة الذي رافق أمهاتنا على مدى سنوات, أسماؤنا البريئة من الوقت الذي ينهكنا, نصفنا الآخر الذي نبحث عنه في أجساد غريبة وأرواح يفزعنا فراغها والذي قد لا يصل أبداً.
الوطن أخضر؛ أغصان ورد كثيرة على جذوع آبائنا البنية؛ كلما ابتعدنا عنها كلما ازددنا اقتراباً من الألوان؛ ويباساً كغصن مقطوع, الستائر القديمة التي كانت تغطي نوافذ البيت الأول, أشجار السرو الطويلة التي كانت تحيرني خضرتها الأبدية, طرحة أمك المطرزة برائحة الخبز, كتاب القراءة في الصف الأول, الدموع التي ذرفناها على دمية كسرها صبي أحمق, مدافئ الشتاء التي كانت تعني كل شيء في فصل البرد, الحب الأول, ثيابنا المبللة على حبال الغسيل, وسائدنا التي نترك عليها أحلامنا صباحاً ونحنّ إليها طوال النهار, ثوب أمي الأزرق المزهر الذي لم تبدله لسنوات, خوف الأطفال, عيوننا نصف النائمة على طريق المدرسة صباحاً, فرحنا بأحذية العيد الجديدة, صحون الزيت والزعتر على مائدة فقيرة.
الوطن رهان؛ نواياك المفخخة بالبقاء أو باحتمال الرحيل, الحصان الذي قد يقتله بيدق حركتَ هواجسه أو قد يحفظ حياته ليحمي قلبك, خوفك المتقن من سلة المهملات أو العادل مع فكرة النسيان, حبك لي أو لامرأة تنقص عني كثيراً من الجراح وكثيراً من السحب, المسافات التي تقطعها مقترباً مني أو مقترباً من نفسك داخلي, ولعك بي أو بنساء كثيرات يختفين في حضوري فقط, سهولة الانتقال بين قلق الأمس وفرح اليوم, شغفك المحرر في دفتر الرسم من الأسلاك الشائكة أو صورتك الملفوفة بعناية في شريط أسود والمعلقة بحفاوة على حائط صامت, صبرنا على الله كي يرانا أخيراً أو صبر الله علينا كي نكفّ عن اليأس, إنسانيتنا التي يمكن أن نستخدمها دائماً أو إلوهتنا العصية على التطبيق!
الوطن قوس قزح؛ بقايا الرمل على روحك العائدة لتوها من صوت الموج, الريح الزرقاء التي تعبث بضحكتك الممطرة, صدى حزنك الرمادي في عينيك السوداوين, الكرز الأحمر في كلماتك البيضاء, الليل الأسود خارج بيتك المسيج بشجر البن الذي أعشق, النهر المتدلي من أعلى قامتك حتى قلبي, وجع الخرافات التي سبقتك إلي, اسمك العربي كسيف في الخاصرة, كحل تشرين في عيني سماء لم يكتمل جسدها بعد, ذكرياتنا التي لم تتقاطع في مدينة أبداً, أنوثة قدمي الباهتة قبل أن تلحقا بخطاك, فصول الموت والجفاف التي مرت قبلك, البلاد التي كبرت فيّ على يديك, أذان الفجر حين يعلو وأنت لست هنا فأبكي, ماء حزنك القديم الذي هطل عليّ فطهرني من آثامي قبلك, ذاكرتي التي يصيبها الخرف فلا أميز سواك, وجهك الذي أضاء لي نصف العمر القادم وحررني من عقدة الذنب, المطر الذي أشعر به تحت جلدي الآن؛ الوطن أنت!
أصابعك التي غيرت خريطة اليابسة والماء غيرت خريطتي أنا أيضاً وأنقذت قراي من لصوص الضوء وجُزري من قراصنة الأحلام. أيها الوطن لماذا تأخرت كل هذه السنوات؟ هل كان لابد من كل هذا الشوك لأرى جسدي وردة جورية خلف بابك؟ هل كان عليّ أن أقطع يديّ مراراً وأقسم أني لن أرسمك بعد الآن لتضع لي مكانهما جناحين؟ هل كان يجب أن ينهب حقولي قطاع الطرق وأهرم في انتظار وصولك لتجد حزني على عكازتين؟ هل كان علي أن أمحو ظلي بالممحاة لكي لا ترى خيباتي التي يحملها على ظهره وأدخل حدودك دون خوف؟
أيها الحب.. لا تذهب! أعطني فستاناً واحداً من فساتين الشمس المعلقة في خزانة روحك وخذ قلبي سالماً كما لم يكن قبل الآن.
Recent Comments