Search

Sura Alloush

                نســاء

يحدقن في صور العمر

               يوماً بيوم،

يفكّرن ..

   لو يرجع الأمس!

يطرقنَ..

          تنهيدةٌ! ثم صوت دخانْ.

وينصتن:

وقع خطاً،

    فتية يطرقون النوافذ في الصيف

                            للحب،

أو ربما أصدقاء يمرون بالباب

                  كي يفتحوا قمراً في الجدار

                          وذاكرة في المكانْ.

رجال يحطون أمتعة العمر

بعد كثير من الانتظار على شرفة القلب،

أحذية كان يملؤها في الربيع

                  رذاذ الشوارع

          حين تفوح المواعيد في طرق الليل،

أيدٍ تلامس أسرارهن بلا لغةٍ

              وبيوت من الورد

        كنّ حلمن بشهوتها ذات أغنية

        فانتهين على خبزها مثلما جئن

         ليلاً طويل السوادِ

                     وعينين في عمقه تسهرانْ.

لماذا انتظرن طويلاً

           وصلين من ضجر في الظهيرة

       كي يكبر العمر مع ولد

            أو حبيبٍ؟

لماذا تكبدن هذا البكاء

       لتسقط أحلامهن

         التي نسيت مع نساءٍ

              تكاثرن حتى ولدن نجوماً

                  بكفين من قلق تهرمانْ.

صباحاً

يرتبن أشياءهن على مقعد الصمت

   ينسجن في المتبقي من الوقت

            بعض الحكايا

      عن الأمسيات التي لم تكن

        والهدايا التي لم يفزن بأحمرها،

                عن كثير من القبل التي

                     لم يعلقنها خلف بابْ.

يبحن لجاراتهن

        بما لم يبحن به كل تلك السنين،

          يعرين خيباتهن الكثيرة في الحب،

يكذبن حتى يطلن الدروب

         التي لم يطأن بعشاقهن

    كأن الكلام مراكب

               تحملهن على الريح!

ثم يعدن

              ويرمين أحجارهن وراء الغيابْ.

مساءٍ

    يدرن على غرف المنزل المستكينة،

           لا شيء أكثر مما يخفن

                    غداً أن يجيء

       فيغلقن أبوابهن على خوفهن

              ويمسحن ما رسم الضوء صبحاً

                      على صور في المرايا

               جلسن يباهين بالتركات

                    التي قد تركن بفتنتهن

        مع العابرين الذين مضوا للبعيد

             يزلن الحنين الذي علّقته العيون

                       طوال النهارِ

                   على خاتم كن أخفينه،

                             وثياب وضعن أناقتها

                                     في الخزانة

     ثم ينمنَ

       كأن الذي كنّهُ في الصباح

دمىً من ســـرابْ.

     سرى علوش       

 

التائهون الجدد

سُرى علّوش

يعرض أمين معلوف في روايته “التائهون” ما آلت إليه حياة مجموعة من الأشخاص عايشوا الحرب الأهلية اللبنانية. وعلى لسان الراوي وهو أحد هؤلاء الذين جمعتهم صداقة حميمة في المرحلة الجامعية واستمرت أو توقفت لأسباب تتعلق بمواقفهم مما كان يحدث، نعود لأكثر من عقدين من الزمن إلى الوراء لنرى ظروف كل شخصية على حدى ومسببات خياراتها بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معها.

ومع أن البطل الرئيس التي يبدأ منه كل شيء استمر بحمل أحكامه التي أطلقها على البقية في الوقت الذي تصالح فيه مع نفسه وماضيه معتبراً نفسه على صواب؛ إلا أن الكاتب لا يطلق أحكاماً أخلاقية على أحد، لكنه في الوقت نفسه يعرض مبررات ضعيفة لسلوكياتهم وقراراتهم التي اتخذوها حين أصبحت الحرب أمراً واقعاً من غير الممكن إيقافها بقوة الفكر.

وهنا ليس الهدف من السرد السابق الغوص في تفاصيل الرواية ولا تقييمها فكرياً وأدبياً أو دراستها كتوثيق لما حدث، بقدر ما هو إنشاء مقاربة عامة بين حكايات هؤلاء الناجين أو أولئك الذين لم يستطيعوا النجاة مع حكايات كثيرة لأفراد المجتمعات المختلفة كالسوريين على سبيل المثال؛ الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لاتخاذ قرارات مفاجئة قد تنقذ حياتهم وحياة ذويهم أو قد تنهيها إلى الأبد.

ربما كان عدم رغبة أمين معلوف في ذكر اسم لبنان على لسان بطل روايته الذي قضى معظم حياته مغترباً ومواطناً لبلد آخر نوعاً من التعميم للحالة الإنسانية والأخلاقية التي طغت هناك ولم يكن المكان عاملاً مفصلياً في تكوينها، بل الإنسان العادي والمواطن البسيط الذي حولته الحرب والنزاعات الطائفية والدينية من مجرد شخص يسعى لحياة كريمة بسيطة إلى شخص بدائي يقاتل بأظافره وأسنانه ليثبت وجوده؛ هذا الوجود الذي لا يتعلق بالمطلق ببقائه حياً، بل بالموت في سبيل ألا تنقرض الجماعة التي ينتمي إليها. ومن هذا المنطلق نستطيع دون عناء بالنظر إلى ما يحدث في الشرق الأوسط بشكل عام وفي عدد من الدول العربية بشكل خاص أن ننظر إلى الرواية كوصف للواقع المجتمعي العام لا للحالة اللبنانية فقط.

وبالطبع لن يكون من الدقة بمكان أن نشبه الحرب الأهلية اللبنانية بالثورات التي بدأت في عدد من الدول العربية من أجل إسقاط الحكم الدكتاتوري وإرساء أسس واضحة ومتينة لبناء حياة ديمقراطية سياسياً واجتماعياً، لكننا في النهاية مضطرون للأخذ بالنتائج لا بالنوايا. وهنا لا يمكن أن نحمّل فكرة الثورة أو حتى تجسيدها على الأرض ذنب ما حدث، ومن غير المنصف أن نلقي اللوم على طرف واحد ونقوم بتبرئة الأطراف الأخرى؛ فالجميع هنا يجب أن يتحمل إثم ما حدث ويتحمل مسؤولياته.

الخراب الذي وقف على أنقاضه الأصدقاء  في رواية “التائهون” بعد أكثر من عقدين من الزمن محاولين ترميم الثقوب في الثوب الذي مزقه الجميع في الماضي، وردم الهوة التي كبرت بينهم بأي شكل، يشبه ما يحدث الآن؛ حيث نرى البطل يقوم بتنظيم لقاء بين جميع الأصدقاء واستقبالهم في فندق صديقته التي بقيت في البلاد بعد عودتهم من منافيهم لإلقاء نظرة على أنفسهم وذكرياتهم؛ كيف كانت أو كيف كان يمكن أن تكون.

بالطبع هناك اختلاف جوهري بين التجربتين السورية واللبنانية، لكننا إذا ما نظرنا إلى النتائج والتطورات التي أصابت المجتمعين في مقتل يمكننا إيجاد العديد من الجوانب المتشابهة؛ فهؤلاء التائهون ليسوا إلا “الناجين” من الموت الذين لم يجدوا أمامهم طريقاً آخر لكي لا يلطخوا أيديهم بالدم، وهؤلاء الباقين هم سكان الضفة الآخرى من البلاد الذين لم يستطيعوا الفرار، أو الذين اختاروا البقاء ليدافعوا عما تبقى لهم. ما يحدث في سوريا كما يجب أن يعرف الجميع ليس حرباً أهلية، لكنها حرب بين جهات كثيرة لم تترك للإنسان العادي الذي لم يغادر خياراً آخر غير الاستمرار في الحياة رغم كل ما يحدث بانتظار أن تنهي حياته رصاصة أو قذيفة. أما هؤلاء الذين يحاربون فقد عرفوا بعد أول رصاصة أطلقت عليهم أنهم كي يستمروا لا بد أن يكونوا قتلة لكي لا يصبحوا قتلى.

لكن ما لا يعرفه أحد أن هذه الثورة التي أكلها الوحش ولم يترك لنا حتى عظامها لن تترك منتصراً في النهاية؛ لا لأن البلاد أصبحت ركاماً، بل لأن الخراب الذي أصاب الإنسان لا يمكن أن يرممه شيء. الشتات الذي يعيشه السوريون ليس منفى يستطيعون التأقلم معه مع مرور السنين وحسب، بل هو ضياع كامل لكل المفاهيم الأخلاقية والإنسانية التي كانت يجب أن تحكم حياتهم وسلوكهم، وطالما أن المنظومتين الإنسانية والأخلاقية سقطتا فلا شيء يمكن أن يجعل حياتنا تقف على قدميها من جديد.

ربما كانت رواية “التائهون” توثيقاً إنسانياً من خلال سرد أحداث غير حقيقية وقعت في حياة أشخاص غير حقيقيين، لكنها تحكي تجربة حقيقية ومرة عاشها اللبنانيون ومازالوا يدفعون ثمنها حتى الآن لأنهم لم يتعلموا منها. وهكذا فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا كسوريين لم يحدث بعد، لكننا سنفعله بأنفسنا إذا لم ندرك الآن حجم الكارثة واعتبرنا كل ذلك الدمار مجرد نتيجة طبيعية لحرب شنها علينا الآخرون لأننا طالبنا بحريتنا.

17191029

Poem von Sura Alloush Übersetzung Saida Schulze-Vatter

Am Morgen…

Deine Stimme klopft an die Tür des Schlafs

und bringt mein Herz aus seiner Hand zum Fenster,

um die Sonne anzulächeln, die wir uns gemeinsam aufteilen an einem Tisch in einer afrikanischen Stadt.

Ich überlasse dir meinen Anteil an Licht,

denn ich liebe die Dunkelheit viel mehr,

diese Dunkelheit, die mich in deinem Herzen versteckt,

ohne dich zu zwingen, die naiven Gelächter zu rechtfertigen.

Jedes Mal, wenn Du deine Hand auf deine Brust legst, spürst du den Fluss,

den du nach mir benannt hast.

Am Abend…

In meinen Ohren klingen die Geräusche der Stadt, unter deinen sich nach dem

letzten Wind richtenden Füßen.

Vielleicht kommen sie an.

Ich schreibe weiter meine Träume auf eine Wand, die uns vom Friedhof trennt

und wiederhole deinen Namen, um mich vor den Geistern der Soldaten zu schützen

und vor ihren großen Schuhen, Särgen gleich.

Ich zeichne mit meinen Fingernägeln Gesichter derjenigen, die nicht gestorben sind

und lege ihre Lieder auf die Türschwellen der Häuser, damit sie größer werden und

ihre Kinder vor den Bomben schützen.

Und wenn ich fertig bin,

wische ich deine Tränen mit dem Ärmel meines Gedichtes ab

und wasche deine Hände von den Schmerzen des Kriegs

und reinige dein Gedächtnis von den Begräbnissen, die du begleitet hast.

In der Nacht…

Ich vergesse, was abends geschah.

Ich lehne meine Wolke an deine Schulter

und schneide die Fingernägel der Länder, die bedächtig rauchen,

während die Welt dem Ende der Nachrichten zuschaut.

Dann schließe ich meine Augen,

wartend auf das Anklopfen deiner Stimme an die Tür des Schlafs

und ein neuer Sonnenstrahl flieht durch das Schlüsselloch.

حكاية قصيرة ليوم

سُرى علوش

في الصباح..

يدق صوتك باب النوم

ويأخذ قلبي من يده إلى النافذة

لأبتسم للشمس التي نتقاسمها معاً على مائدة مدينة إفريقية

أترك لك قطعتي من الضوء

فأنا أحب العتمة أكثر

تلك العتمة التي تخفيني في قلبك

دون أن تضطر لتبرير الضحكات الساذجة التي تطلقها

كلما وضعت يدك على صدرك متحسساً النهر الذي سميته باسمي.

في المساء..

يرن في أذني صرير المدينة تحت قدميك المتجهتين إلى آخر الريح

وريثما تصل

أواصل كتابة الأحلام على الجدار الذي يفصلنا عن المقبرة

وأردد اسمك ليحميني من أشباح الجنود

وأحذيتهم الكبيرة كالتوابيت

أرسم بأظافري وجوه الذين لم يموتوا

وأضع أغنياتهم على عتبات البيوت لكي تكبر وتحمي أطفالهم من القذائف

وحين أنتهي

أمسج دموعك بكم قصيدتي

وأغسل يديك من وجع الحرب

وأنظف ذاكرتك من الجنازات التي مشيت خلفها.

في الليل..

أنسى ما حدث في المساء

أسند غيمتي إلى كتفك

وأقص أظافر البلاد التي تدخن على مهل

 بينما ينتهي العالم من مشاهدة نشرة الأخبار

ثم أغمض عيني

بانتظار أن يدق صوتك باب النوم

ويهرّب لهما شمساً جديدة من ثقب الباب

fullsizephoto160467

 “وجوه وأماكن” حكايا الحب والخراب

“وقت مستقطع” عندما يضيع الحلم لأننا أردناه حقيقة

سُرى علّوش

ثلاث حكايات؛ تبدأ واحدة ولا تنتهي الأخرى، حكايات الحياة العادية، العادية جداً، التي أضعناها وضعنا بعدها. حياة تشبه الجمل الموسيقية القصيرة المتواترة مع اللحظة والممسكة بها التي رافق إيقاعها الداخلي تلك التفاصيل العادية التي قد تكون حباً أو خيانة أو انشغالاً بشيء ما أو شروداً أو حتى ثورة. “وجوه وأماكن” العنوان الكلاسيكي الذي لم يكن مناسباً للحكاية العامة التي يرى كل منا نفسه أو ماضيه أو حتى غده فيها، لكنه أشار إلى تعدد الحكايات الكثيرة الصغيرة التي يحملها الجميع بين يديه؛ نتعرف إليها ونتجاهلها في آن وكأنها لا تعنينا. يبدأ العمل بالإنسان وينتهي به، وهكذا تصبح الثورة فعلاً عادياً وحياتياً وضرورياً تمشي جنباً إلى جنب مع كل الأفعال الأخرى، لا استثنائياً ولا مقدساً من صنع الآلهة، وحين تغلب الصفة البشرية على الأفعال يصبح لها معنى حقيقي لا مجازي.

ومع النار التي أحرقت البوعزيزي وقلبت صورة بلد تبدأ الحكاية الأولى بفعل خيانة نمطي وغير مدروس، ومع الفرق الواضح بين الفعلين أخلاقياً إلا أنهما يبقيان فعلان طبيعيان بشريان يغيران وجه الحياة ويجعلانها كما لم تكن قبل الآن وهكذا كانت المقاربة العكسية مرآة لاتساع الهوة بين مستوى الحدثين وحيثياتهما من حيث الباطل الواجب السقوط.

بعيداً عن مقص الرقيب وعن الولاءات والتحزبات وبانحياز نزيه للواقع سواء أعجبنا هذا الواقع أو خالف ما نتمناه ونتبناه، تتصاعد وتيرة الحكاية ببطء ربما كان متعمداً فيقع المهندس الخمسيني في حضن ابنة ضابط متقاعد خائف في فخ عاطفي انتهازي. هنا تصبح السياسة خلفية للاجتماعي دون أن يركز العمل جهده على التنظير السياسي والثوري، ومن خلال الأحداث العادية أو التي أصبحت عادية ويومية تبرز ثنائيات الخوف والشجاعة، العبودية والحرية، الكلام والصمت، الانخراط في الحدث واللامبالاة، التضحية بالنفس أو محاولة حمايتها؛ في تباين جاد وحقيقي بين مواقف الشخصيات ومبرراتها. تبدأ الثورة في سوريا وتبدأ معها ثنائية الموالاة والمعارضة مضيئة على الحيادي أو الصامت المستَغل بأبسط صورة لها؛ لتنطلق شعارات المؤامرة والمقاومة والحسم على ألسنة مريدي النظام مقتنعين أن الحال لن يبقى إلا كما هو عليه ومبررين البيروقراطية والفساد طالما أن “حتى بأمريكا في هيك”، ومواويل الخوف من بطش النظام والخوف على ضياعه من مستفيدين من غياب القانون وحريصين على نظام أمني  يمسك البلد من أذنها ليربي العقول الطامحة بالعصا أو بالرصاص حسب ما يقتضي الأمر، ويطلق أيدي اللصوص. ومن جهة أخرى يبدأ خرق الصمت الذي سيطر على الناس طوال عقود ضمن رؤية رومانسية وأخرى تشاؤمية مستشرفة لبحر الدم القادم، في إشارة إلى فشل كل حالات النضال السابقة باتجاهاتها المختلفة وعجزها عن إحداث تغيير ما. بهذه البساطة ينقل العمل في حكايته الأولى صوت الشارع ولسان حال الناس على تعدد آرائهم وأسبابهم فما حدث حدث هكذا، تلقائياً وبسيطاً لا أقل عمقاً مما عشناه ولا أكثر. وهنا لا بد أن نشير إلى تفرد العمل في نقله للحدث إنسانياً من داخل البيوت لا من الشارع وكواليس النظام فقط. وبحيادية نفتقدها في دراما الثورات وقد لا تعجب البعض سلّط شيخ المخرجين الضوء في حكايته على الشريف والمتورط دون انحياز أو تهميش، ومنح الثوة هويتها السورية الخالصة التي لا يغلب عليها انتماء لدين أو تيار أو توجه حزبي. ظهرت البيئة الحاضنة للحراك الشعبي بامتياز وصدق كما ظهرت البيئة الحاضنة للتشبيح والقتل والحفاظ على النظام فقط لأنه “مافي نظام” بالأصل أو بسبب انتماءات طائفية واضحة خائفة أو ممتنة. كان المسلسل واضحاً في تصنيف كل من وقف مع النظام بالفاسد وكل من وقف مع الشعب بالشريف، وواضحاً في وجهة نظره أن الثورة لاطائفة لها هي ثورة لكل السوريين على اختلافات مرجعياتهم وأصولهم، دون أن يسقط في خطاب الغوغاء والاتهامات المجانية.

حل أمني، ملاحقات للحقوقيين والمطالبين بدولة قانون عادلة، رصاص حي على المتظاهرين، قصف، تخفي، تعنت كامل من قبل النظام في التعامل مع الوضع الشعبي ورفض الحوار أو الاستجابة، تحكيم قبضة الفاسدين على الناس عقاباً لهم والتفاف على الحقيقة؛ كل ذلك أدى إلى نهايات مفروضة تتمثل في الهرب حفاظاً على الحياة، أو عقد صفقات يخرج منها الإنسان بأقل الخسائر، أو الموت بأشكاله الحكومية، ونهاية واحدة للبلاد هي الخراب.

 اختصر العمل  الشعب السوري بأسرة واحدة وارتباطاتها الاجتماعية أي بمستوى اجتماعي وثقافي واقتصادي محدد، لكن ثلاث عشرة حلقة بالكاد يمكن أن تحمل ما حملته من توازن بين الشخصيات المختارة وتفاعلها مع الحدث مرحلياً؛ فقد مثلت معظم الأصوات بمافيها صوت المخبر والعميل والمستفيد والشبيح والعفيش. ما عرضه المسلسل لم يكن توثيقاً ولا نقلاً أعمى، كان الواقع كما حدث والذي تغاضت عنه كل الأعمال الفنية التي تعرضت للثورة في سوريا منتقلة بشكل مباشر إلى ماحدث بعد ذلك ومتجاهلة البدايات والتي هي صلب المسألة والوحش الذي أسس لكل ماحدث لاحقاً من تسلح وتأسلم.

بيئة سورية عالية الواقعية نقلها هيثم حقي المخرج وكاتب الحكاية بتفوق وبأدق التفاصيل التي لم تغب عنه من خلال حوار صريح وكاشف و كاميرا كلاسيكية بعيدة عن إبهار البصر والشغل المكثف على الصورة كما نزع المخرجون المحدثون، ومع ذلك فتلك الطبيعية كانت أكثر واقعية وتماشياً مع النص لكن أداء الممثلين تفاوت بين طبيعي وكسول إلى غير منطقي أحياناً ما قلل من شأن الفكرة في بعض المشاهد. الحكاية لا تنتهي مع نهاية التصوير، لكنها تدلنا على الطريق حين يستيقظ مازن من وهمه مدركاً أنه لا ينتمي إلى الحفرة التي انزلق إليها مستسلماً لخداع البصر والقلب لنرى أن الصالح لا يمكن أن يصبح فاسداً والفاسد لا يمكن أن ينصلح، وأن الحرب الدائرة في سوريا ليست حرباً بين اتجاهين بقدر ماهي حرب بين الخير والشر في عالم أمارٍ بالسوء، يقف أمام أحلام البسطاء البسيطة، الذين صرخوا للحياة قبل الحرية.

قُبلة

سُرى علّوش

كنت أعرف كيف ينقسم العالم إلى نصفين

وسط ذهول حبيباتك السابقات

حين تقبلني في منتصف الطريق

وأبكي على اللواتي لا يعرفن معنى أن يقبلهن رجل في الزحام

وبين مصدق ومكذب

يختلق المارة لك الأعذار

ويشتمنا البعض في سرهم معتقدين أننا لا نملك من الأدب

 سوى ذلك الكتاب الذي يطل من حقيبتك الجلدية

كنت أعرف كيف يصبح للذئب قلب غزال حين يقع في حب فريسته

 وكيف تداوي الفريسة جراحها بالبكاء

وتنزع السكاكين من صدرها واحداً واحداً دون أن تصرخ

أو تتلوى من قسوة الحب وغدره

كنت أعرف كيف تتحول تلك القبلة إلى صبارة مدججة باحتمال الخسارة

كلما كذبت على نفسي واقتربت لأقبلك

وأصبح الدم بقايا وطن في خاصرة

كنت أعرف قلبك الطاعن بالخوف من خسارات جديدة

وأعرف كيف تحاول حماية نفسك بالقفز على أسوار الحكايات

مصراً ألا تكون لك حكاية واحدة يرتبط بها اسمك

فيصبح من الصعب أن تبقى منسياً إلى الأبد

لكن القبلة التي خبأتها في كف يدك المثنية خلف ظهرك

كانت دائماً شاهداً على حكايتك الناقصة معي

والتي كلما هممتَ بإكمالها

 ردك الشارع الفارغ هذه المرة من العابرين

 الذين لن يرونك تقترب من قلبي

لتضع عليه إشارة النصر

وتذكّره بتلك القبلة التي قسمت العالم إلى نصفين

بيدق

سُرى علّوش

طعنة في الظهر! وجهك القديم المغمور بابتسامات النسيان, ووجهك الجديد الغريب الذي لم أتعرف إليه, والذي يبتكر ألف فكرة وفكرة لقطع حباله الصوتية. وجهك المتقدم على خط الزمن دون أن يتعثر بالأغاني والاقتباسات، ودون أن تفقده محنة الغفران صوابه فتختلط الصور في ذاكرته وينتبه. وجهك الجديد خيانة فاجرة لبنت كنتُها قبل عامين ومازالت تنتظرك هناك في محطة القطار لكي تفترقا أخيراً بحرفة عاشقين عارفين ألم الفراق وقادرين على التعايش معه. وجهك خرق لغوي طغى ضعفه البلاغي على السلام المبتذل والكف التي انقطعت أخبارها عن العرافة مذ انقطع إيمانك بكذبة الأبدية. كان ذلك كافياً لكلينا لكي نعترف أن فكرة الوقت غير كفيلة بشفاء الجروح التي نفتحها كلما التقينا أو بإيقاظ النسيان النائم من شروده عن مصيرنا؛ مصيرنا الذي ليست لديه أدنى فكرة عما ينتظرنا من ندم يفترس أسماءنا كمجرم متمرس. طعنة في الظهر صوتك! صوتك الغائب اليابس كغريب لا يميز قلبه التاريخ ولا يحركه مربعاً زمنياً واحداً.

غيرتنا الحرب. أكلت وساوسنا وألق  الكذبات الكثيرة التي رميتها في وجهي كذبة وراء أخرى حتى لم أعد قادرة على هزيمة الوقت وترتيبها والنظر فيها أو اكتشافها. غيرتك الحرب؛ أخذت قلبك ووضعت مكانه لعبة بلاستيكية قديمة تنكسر داخلك كلما تقلبت في نومك دون أن تدري أو تصدق احتمال أن ينكسر داخلك شيء دون أن يؤلمك! لم تغيرك الحرب، ربما لا تغير الحرب أحداً؛ هي تكتفي بخلع الأقنعة عن وجوه الجميع ومنحهم من الموت ما يكفي للتخلص من نعمة الخجل والامتثال للكوابيس التي يعيشون فيها ويسمونها حياة.

طعنة في الظهر يدك؛ يدك التي ابتسمت لكتفي مرات عديدة وغطت جسدي بضحكاتها الملفوفة بالموج، ثم أطلقت النار عليه حين استدار نحو الفرح ليبرر غفرانه لك، ويقنع الله بحبك الذي لا دليل عليه سوى غيابه. الطعنات لا تقتل. الطعنات تغير اتجاه الريح فقط، وتجعلنا نسلك طريقاً آخر لا مرايا تُزوّرنا في نهايته، ولا ظلال تنام على أرصفة المدينة التي أضعت نفسك بين فتيات ليلها، ولم تجد بدلاً عنها سوى بيدق كان أكثر جبناً من أن يدخل حرباً.

http://freedomraise.net/%D8%A8%D9%8A%D8%AF%D9%82-%D8%B3%D8%B1%D9%89-%D8%B9%D9%84%D9%88%D8%B4/

الوطن أخضر.. الوطن أنت

سُرى علّوش

أين ذهب البحر؟ كيف اختفى بين أصابعك السمراء الطويلة ولم أعد أراه إلا حين أصافح كفك الممتلئ بالظلال: ظِلُّ رجل وحيد متعب, ظِلُّ امرأة كانت تستيقظ في صباحاتها بين يديك وتغسل وجهها بابتسامة بيضاء, ظِلُّ مدينة تسكنك ولا تسكنها, ظِلُّ حبك لي الذي لم أعتد خرافته حتى الآن, ظلال نساء رماديات تعرفهن ولا تفكر بهن, ظِلُّ حديقة تمتد من كرسيك وحتى شباك المنزل, ظلال الأشجار التي تسكن ذاكرتك, ظلال البيوت الحجرية في قريتك الصغيرة, ظل غيابك الذي يلوح لي من البعيد كالسلام كلما التقينا, ظلك الذي تفرده على كتفيّ كلما هاجمني البكاء؛ وحده ظلي لا أراه أبداً هناك؛ ربما لأنني لم أجتمع مرة مع الشمس في غرفتك, لطالما غادرتُ قبل مجيئها وعدتُ بعد أن نزعتَ عنها آخر أثوابها ووضعتَه خلسة في خزانتك الخشبية ثم تسللتَ من النافذة. ليكن! أنت في العتمة أشهى, وأنا في كل الأحوال لا أحب برودة الظلال ولا أريد أن أبدأ حرباً مع الضوء أخسر خلالها تعاطفه معي, فأنا أحتاجه حين تنام.

الوطن أبيض؛ قطعة قماش يضعوننا داخلها حين نخرج من أمهاتنا ونرتبط برائحتها طالما حيينا فيصبح كل شيء خاضعاً للمقارنة بها؛ السرير الأول, البيت الأول, الثياب التي علقت في ذاكرتنا من الطفولة, الوجوه التي نعرفها وتلك التي لا نعرفها, الغصة التي تأكلنا حين نغادر أول مرة, شعورنا بالذنب كلما عصينا الحياة العادية التي ألفناها, الأخطاء التي لا تشبهنا, الأغاني التي ننسى كلماتها ونتذكر موسيقاها فقط, ثوب الصلاة الذي رافق أمهاتنا على مدى سنوات, أسماؤنا البريئة من الوقت الذي ينهكنا, نصفنا الآخر الذي نبحث عنه في أجساد غريبة وأرواح يفزعنا فراغها والذي قد لا يصل أبداً.

الوطن أخضر؛ أغصان ورد كثيرة على جذوع آبائنا البنية؛ كلما ابتعدنا عنها كلما ازددنا اقتراباً من الألوان؛ ويباساً كغصن مقطوع, الستائر القديمة التي كانت تغطي نوافذ البيت الأول, أشجار السرو الطويلة التي كانت تحيرني خضرتها الأبدية, طرحة أمك المطرزة برائحة الخبز, كتاب القراءة في الصف الأول, الدموع التي ذرفناها على دمية كسرها صبي أحمق, مدافئ الشتاء التي كانت تعني كل شيء في فصل البرد, الحب الأول, ثيابنا المبللة على حبال الغسيل, وسائدنا التي نترك عليها أحلامنا صباحاً ونحنّ إليها طوال النهار, ثوب أمي الأزرق المزهر الذي لم تبدله لسنوات, خوف الأطفال, عيوننا نصف النائمة على طريق المدرسة صباحاً, فرحنا بأحذية العيد الجديدة, صحون الزيت والزعتر على مائدة فقيرة.

الوطن رهان؛ نواياك المفخخة بالبقاء أو باحتمال الرحيل, الحصان الذي قد يقتله بيدق حركتَ هواجسه أو قد يحفظ حياته ليحمي قلبك, خوفك المتقن من سلة المهملات أو العادل مع فكرة النسيان, حبك لي أو لامرأة تنقص عني كثيراً من الجراح وكثيراً من السحب, المسافات التي تقطعها مقترباً مني أو مقترباً من نفسك داخلي, ولعك بي أو بنساء كثيرات يختفين في حضوري فقط, سهولة الانتقال بين قلق الأمس وفرح اليوم, شغفك المحرر في دفتر الرسم من الأسلاك الشائكة أو صورتك الملفوفة بعناية في شريط أسود والمعلقة بحفاوة على حائط صامت, صبرنا على الله كي يرانا أخيراً أو صبر الله علينا كي نكفّ عن اليأس, إنسانيتنا التي يمكن أن نستخدمها دائماً أو إلوهتنا العصية على التطبيق!

 الوطن قوس قزح؛ بقايا الرمل على روحك العائدة لتوها من صوت الموج, الريح الزرقاء التي تعبث بضحكتك الممطرة, صدى حزنك الرمادي في عينيك السوداوين, الكرز الأحمر في كلماتك البيضاء, الليل الأسود خارج بيتك المسيج بشجر البن الذي أعشق, النهر المتدلي من أعلى قامتك حتى قلبي, وجع الخرافات التي سبقتك إلي, اسمك العربي كسيف في الخاصرة, كحل تشرين في عيني سماء لم يكتمل جسدها بعد, ذكرياتنا التي لم تتقاطع في مدينة أبداً, أنوثة قدمي الباهتة قبل أن تلحقا بخطاك, فصول الموت والجفاف التي مرت قبلك, البلاد التي كبرت فيّ على يديك, أذان الفجر حين يعلو وأنت لست هنا فأبكي, ماء حزنك القديم الذي هطل عليّ فطهرني من آثامي قبلك, ذاكرتي التي يصيبها الخرف  فلا أميز سواك, وجهك الذي أضاء لي نصف العمر القادم وحررني من عقدة الذنب, المطر الذي أشعر به تحت جلدي الآن؛ الوطن أنت!

أصابعك التي غيرت خريطة اليابسة والماء غيرت خريطتي أنا أيضاً وأنقذت قراي من لصوص الضوء وجُزري من قراصنة الأحلام. أيها الوطن لماذا تأخرت كل هذه السنوات؟ هل كان لابد من كل هذا الشوك لأرى جسدي وردة جورية خلف بابك؟ هل كان عليّ أن أقطع يديّ مراراً وأقسم أني لن أرسمك بعد الآن لتضع لي مكانهما جناحين؟ هل كان يجب أن ينهب حقولي قطاع الطرق وأهرم في انتظار وصولك لتجد حزني على عكازتين؟ هل كان علي أن أمحو ظلي بالممحاة لكي لا ترى خيباتي التي يحملها على ظهره وأدخل حدودك دون خوف؟

أيها الحب.. لا تذهب! أعطني فستاناً واحداً من فساتين الشمس المعلقة في خزانة روحك وخذ قلبي سالماً كما لم يكن قبل الآن.

أنا المرأة الكثيرة

سُرى علّوش

أنا المرأة الكثيرة

أستجمع قواي لأنهض من السرير كل يوم دون أن أبكي

لأن البارحة لم يكن واضحاً وبهياً كما ينبغي

أكتب اسمي بحبات القهوة على جدار الصباح

وأتألم لكل النساء المنتظرات مثلي على الشباك

إشارة من الله لكي يقفزن كالأغاني من الفرح

أنا المرأة الكثيرة على الحياة

لا شيء يجعلني أكثر حزناً أو أكثر رغبة بالانتظار

ولا أشدّ شغفاً بالذي لا يأتي

كل شيء محسوب ومتوازن

لا يزداد بالوجع ولا ينقص بالنسيان

أنا المرأة الكثيرة على الحب

أتباهى بقلبي الذي كلما امتلأ كبرت الغرف الفارغة فيه

وأبكي على الذين لا يستطيعون الدخول

أمرّ على الذين رحلوا وأمسكهم من أسمائهم

أعلقهم على جدار الحي القديم

وأبتسم لأجلهم ثم أمضي

أنا المرأة الكثيرة عليك

ربما لن تعلم ذلك الآن..

لكنك يوماً ما.. في مكان ما..

ستكون وحيداً

وستتمنى لو أنك لم تقتل فيّ اللهفة لأكون دائماً أقرب من صوتك

وأشدّ استعداداً للهزيمة من مصباح مكسور في سقف الشارع

لا أحد بعدي..

ولا أحد يتقاسمني مع قلبك الذي لن أدخله مرة أخرى

لأن ذكرياته عني لم تكن غنية بما يكفي

لأبقى دون وجع أو موت يكبران بيننا

وينهبان ما تبقى من الروح التي سقطت كعش طائر مهاجر

انقسامات السوريين ترفع أوزار الحرب الباردة

Source: انقسامات السوريين ترفع أوزار الحرب الباردة

Blog at WordPress.com.

Up ↑